رسمي أبو علي
عن الشاعر الرجيّم العابر بنعال من الريح. هذه هي المرة الأولى التي يترجم فيها رامبو إلى العربية كاملاً ، ومشروحاً ، بشكل موثق وممتاز. الشاعر والأكاديمي العراقي ، كاظم جهاد ، هو من قام بهذا الصنيع المميز ، جداً ، في عالم الترجمة ، وكاظم يقيم في باريس ، منذ عقدين من الزمن ، أو أكثر ، وزيادة في إلقاء المزيد من الضوء على هذا الشاعر الأسطورة ، فقد استعان بثلاثة شعراء قدم كل منهم مقالاً عن الشاعر: شاعران فرنسيان هما ، آلان جوفروا ، استهل الكتابة بمقال عنوانه "آرتور رامبو أو الحرّية الحرة" ، وهي الحرية التي عمل رامبو بموجبها على تجاوز ذاته ، المرة تلو المرة ، إلى أن وصل إلى نقطة أحس فيها أنه لن يستطيع أن يذهب إلى أبعد ، فاعتزل الشعر ، وسافر جنوباً إلى مصر فالحبشة ، فاليمن ، مشتغلاً في أمور التجارة ، تحت اسم §عبدو رامبو§ ، وهو الاسم العربي الذي كان يختم به معاملاته التجارية. وبهذا يقول جوفروا إن رامبو كان أتم صنيعه الشعري ، ولم يعد لديه رغبة في قول المزيد.
أما الشاعر الفرنسي الثاني ، فهو آلان بورير ، وكتب مقالاً بعنوان: "رامبو بأكثر من صفة"، يدعمه منذ البداية برأي نقدي للناقد غابريال بونور ، في كتابه عن "صمت رامبو": "وكان قد اكتشف ، أيضاً ، أن الشعر لا يمكن أن يفلح ، وذلك بلا أدنى شك ، بسبب من عائق محتوم ، وثيق الصلة ببنية هذا العالم". ذلك أن رامبو لم يكن ينظر إلى الشعر على اعتباره أدباً ، وإنما بوصفه أداة تحويل وتغيير للعالم ، مستعيناً بما يسمى "خيمياء الكلمة" ، كان يريد أن يجعل من الحياة ، والشعر صنوان ، وهو طموح لم يسبق لأحد أن حاوله ، في الثقافة الغربية ، عامة ، ولكن يمكن أن نعثر على بعض كبار المتصوفين الإسلاميين الذين قاربوا المسعى الرامبوي ، لكن لأهداف أخرى. ويبدو أن بورير مطلع بقدرعلى تاريخ الشعر العربي. فهو يقرن رامبو بعدد من الشعراء العرب القدامى: تأبط شراً ، الحطيئة ، وصولاً إلى أبي نواس في ما يتعلق بمسألة التجديد. كان رامبو معادياً لكل ما في مجتمعه: الأسرة ، الكنيسة الكاثوليكية ، النزعة الوطنية الفرنسية ، كبار الشعراء ، وأولهم فكتور هوجو الذي كان رامبو يتوعد ، وهو ما يزال فتى ، أنه سينتف لحيته ، شعرة شعرة ، وكان فتى استفزازياً يتعمد أن يطيل شَعره ويبقى قذراً ، بلا استحمام ، مدة طويلة ، وصرح أنه يفعل ذلك لأنه يريد أن يرّبي مزرعة من القمل في رأسه حتى يلقيها على القسيسين ورجال الدين. كان متمرداً ، بالفطرة ، عدوانياً يكره والدته الكاثوليكية المتعصبة المتزمتة ، والتي كان يحسّ معها أنه يختنق ، أما والده فلم يكن موجوداً في البيت ، معظم الوقت ، إذ كان يعمل موظفاً في الإدارة العسكرية في الجزائر ، الأمر الذي جعل رامبو يحمل عواطف متناقضة تجاه أبيه ، فهو مشدود إليه ، وهو يريد أن يتجاوزه ، أيضاً ، ويبدو أن والده كان ترجم جزءاً من القرآن ، حيث اطلع رامبو عليه. وبتأثير والده ، المقيم في الجزائر ، كان رامبو معجباً بالأمير المحارب عبد القادر الجزائري. بهذا يكون رامبو معادياً لفرنسا ، تقريباً ، خارجاً عن مناخات شعراء باريس ، الذين كان يحتقرهم بلحاهم وكسلهم وادعاءاتهم الفارغة ، كما يظن. "كل ماهو فرنسي فهو سيء" ، كان يردد دائماً ، ولذلك كان متوقعاً ، منه ، بعد أن وصل إلى طريق مسدود ، أن يتجه جنوباً ، ربما طلباً لخلاص لم يستطيع أن يحققه ، أبداً ، فمات رجيماً ، وملعوناً وهو يجر رجله المصابة بالغرغرينا ، وخائفاً ، طوال الوقت ، أن يسرق أحد "جزدانه" الذي يحوى ثروته الصغيرة. وهوالذي كثيراً ما احتقر الشهرة ، والمال ، والمجد ، وحتى الشعر نفسه ، إذ إن أروع أعماله ، "فصل في الجحيم" ، قد عهد بطباعته لناشر مغمور ، ثم لم يتابع الأمر ، حتى عثر عليه أحد المهتمين ، صدفة. هل نعرف رامبو ، حقاً؟ يؤكد الشاعر والناقد ، عباس بيضون ، في مقاله الثالث عن رامبو ، ضمن مقالات تقديم رامبو في مقدمة الكتاب "بأننا ، في العالم العربي ، وخاصة في لبنان ، قد كرسنا اسم رامبو ، من دون أن نعرف شيئاً عن النصّ الرامبوي ، فقد استوى رامبو اسماً من أسمائنا الحسنى ، من دون أن نعرف شيئا عن شعره" ، ويعيب على مجلة شعر ، التي كانت أول من أشارت ، باهتمام ، إلى رامبو ، أنها لم تترجم أياً من أشعاره ، كما يعيب عليها أنها نزعت الأبعاد السياسية والثورية من شعره ، على اعتبار أن مجلة شعر كانت تنشد شعراً يتعالى فوق السياسة ، وفوق جميع الإيديولوجيات. ويضيف ، أيضاً ، أن اثنين من أبرز شعراء مجلة شعر ، أيامها ، وهما: أدونيس ، وأنسي الحاج ، ويمكن اعتبارهما سليلين رامبويين ، في النهج والرؤية ، لم يتأثرا ، مطلقاً ، برامبو: فقد تأثر الجميع بإليوت وإديت سيتويل ولوركا ، وغيرهم من شعراء العالم ، ولكن أحداً لم يتأثر برامبو.
إذن غاب رامبو السياسي ، "رامبو التمرد الاجتماعي والحلم بثورة اجتماعية ، رامبو الكومونة (شارك رامبو في كومونة باريس) ، رامبو الهجاء للإمبراطور والبورجوازية" ، يستطرد عباس بيضون ، "لم نقرأ رامبو واكتفينا بالافتخار به ، ونسبنا إليه شيئاً لا يشبهه: منزعج من أنويهّ مفرطة ونبوية ومجانية وغرائبية". من هنا تعني كثيراً ترجمة كاظم جهاد ، لا لأنها ترجمة معذبّة بالنصّ الرامبوي ، في سعيها إلى التوسّط بينها وبين اللغة العربية ، فحسب ، وهذا توّتر مهدد كل لحظة ، ولا لأنها مهتمة في ألا تلخص رامبو ، أو تسلمه إلى أي من التأويلات المتضاربة ، بل أن تضعه ، حقاً ، في حلقة المتعدد الموّار الملتبس ، ولا لأنها كاملة في العربية (مع هوامش ثرية هي في حد ذاتها إضافة جليلة) بل لأن رامبو ، لأول مرة ، كامل في العربية ، بلا توسطات ولا نواب ولا أولياء عنه بالوكالة.. إنه هو ، وما فاتنا ، الأمس ، لن يفوتنا ، اليوم : أن نقرأ رامبو ، وأن نضيفه إلى بداياتنا المستأنفة. مختارات ونماذج من شعر رامبو كما ترجمه كاظم جهاد أوفيليا
على الموج الأسود الهادئ ، حيث ترقد النجوم ، تعوم أوفيليا البيضاء ، كمثل زنبقة كبيرة ، بطيئاً تعوم ، ممددة في برقعها الطويل ، في الغابات النائية تسمع صيحات صيادين ، منذ ألف عام وأوفيليا الحزينة
تخطر شبحاً أبيض على النهر الطويل الأسود ، منذ ألف عام وجنونها العذب
يهمس بأغنيتها لنسيم المساء.
الريح تلثم نهديها ناشرة ، كمثل تويجات
برقعها الواسع الذي يهدهده الماء ببالغ الرفق. فصل في الجحيم
بالأمس ، إن لم تخني ذاكرتي ، كانت حياتي وليمة تتفتح فيها جميع القلوب ، وتنسكب فيها جميع الخمور. ذات مساء ، أجلست الجمال على ركبتي - فألفيته مرّا - وشتمته. تسلحت ضد العدالة ، وهربت ، أيتها السواحر ، أيها الشقاء ، ويا أيها الحقد ، إليكم عهد بكنزي، أفلحت في أن أزيل عن فكري كل رجاء إنساني ، وفي اتجاه كل فرح ، قمت ، كي أخنقه ، بالوثبة الصامتة للحيوان المفترس. ناديت الجلادين لأعض ، فيما أهلك ، أخامص بنادقهم ، ناديت الآفات لأختنق بالرمل والدم. كان الشقاء إلهي. تمددت في الوحل. تنشقت في هواء الجريمة. ولعبتْ للجنون ألاعيب.
فجر عانقت فجر الصيف.
ما كان شئ ليتململ ، بعد ، في واجهة القصور. الماء كان ميتاً ، وأفواج الظلال لم تغادر ، بعد ، طريق الغابة. سرت ، موقظاً الأنفاس ، اللافحة منها والفاترة ، فتطلعت الأحجار الكريمة ، وارتفعت الأجنحة بلا صخب.