ابراهيم اليوسف( الشاعرة إذ ترسم قامتها وتطرق الباب)
إبراهيم اليوسف
تدخل شيلان حمو عبر نصوص – بلا عنوان – عالم الشعر، تتكئ على رصيدها الإبداعي، والذي يتمثّل بنصوص قصيرة، التقطتها عدسة القلب، وأعادت صوغها، مكثفةً، مضغوطةً، مكتوبة بأقلّ ما يمكن من كلمات .
ولعل ّ إحساس الشاعرة بطبيعة متلقيها، و لاسيما نحن نضع أولى خطواتنا على أعتاب الألفية الثالثة، هو الذي قادها لصياغة مثل هذا الفهم للنص الشعري الذي توجهه إلى متلق معين، تتلقفه الصورة الالكترونية التي تكاد تتسيد كل الفضاءات من حولنا على حساب أشياء في منتهى الجمال..كالشعر طبعاً ..!.
والنص الذي تقدمه شيلان ، يحاول قدر المستطاع الخروج عن النمطية، والتكرار، والتنفس برئات مصطنعة، وذلك من خلال اقتراح ما يوائم رؤاه الفنية، من الّلغة والإيقاع الداخلي وطريقة تناول الصورة، وهذه لعمري أسّ أيّة بداية سليمة، تجعلنا نسلم بجدوى موهبة صاحبها، في زمان تسعى فيه آلة الشرّ والخراب إلى تدمير كل ماهو جميل، من خلال ترقينه، وترقيمه، وتهميشه، كي نظلّ أسرى التصحر والرماد:
على الخزانة اليسرى
قرب درج الهامش
هل تستريح باقة الألوان
- انطفاء –
ومادامت القصيدة، هي هكذا، أصداء الحالة، والرّوح، وعصارة الرؤى، وحصيد دورة الزمان، وجنى الأوجاع، لذلك فإن شاعرتنا لتجرّ خلفها عربات الارتباك، وهي تتهجّى مدائن الشعر، وتتقرّى مضاربه، وتنغرس في أمدائه، تارة على شكل لثغة، وأخرى في هيئة تنهيدة، أو دهشة أو سؤال نيرودي، مجندة في عالمها كل الأدوات التي تحتاج إليها الروح الشاعرة عادة، دون ورع من الأسلاك الوهمية التي تضعها المدارس الشعرية، من حولها، وهي تتقاسم ألف قصيدة وبهاء قامتها، ومن هنا تماماً قد نقع كثيراً على مفردات أو طقوس يخيل للدارس أنها محض رومانسية فحسب :
الورود الصفراء
البيضاء ...الحمراء
فوق أغصانها كيف تذبل
صعوداً نحو النزول
الدّرج متعدّد الألوان
من كتابها تتعرّى المقبرة
على رقصة الظلال
يمرّ شاحباً
لذلك نكتب لليل قشعريرة شحوب
وإذا كانت نصوص شيلان منصرفةً إلى الواقع، الذات، المحيط، الآخر، وتعيد تشكيله بكلّ حسّها الدافئ، والمرهف، بحق، إلا أن هذا لايعني أنها تدير الظهر لما هو عام، إنساني، فقصيدتها، ترفض أن تقدّم مجرّد متعةً فنيةً عابرة ً، فقط، بل إنها لتجند ذاتها في الوقت ذاته من أجل مساحة شاسعة من أحلامها، لتؤكد أنها هي الأخرى في لجّة هذا الواقع تحديداً، وترفض التهميش، والتشيؤ، كي تسمي صنّاع الخراب والموت بأسمائهم، بل تتشوق إلى اللحظة المقبلة التي يتحقق فيها كل ماتصبو إليه، حتّى وإن جازفت من أجل رؤاها بشيء من التقنية، متاخمةً ضفاف التقريرية ذاتها، مادامت تقول رأيها بكلّ جرأة في زمان أساطيل الموت وأساطين الطغاة :
أيّها المسافر في بحر القرن العشرين
تأمل اتجاه البوصلة
لعبة القهر
جنوباً قوافل السفن المرتجفة
أرسلها الأسطول السادس
في قلب العالم مخاض دائم
يحلم بولادة الربيع
- بوصلة –
واللغة في هذه النصوص، لا تعرف شعرية مسبّقة، وتخلع قمصان الموسيقى الجاهزة، من خلال انضوائها في بناء الصورة البسيطة، الشفافة غير المتعملقة، ترتفع بها انزياحات وأنسنات مدهشة تماما، لا تذكر بأحد البتة :
حزنت القصيدة
أرادت أن تغني
حددوا لها نوع الغناء
أرادت أن تستريح
حددوا لها المسافة والبحر
عندها صرخت : مهلا ً
- حق –
ولعلّ تقنية بناء القصيدة يعتمد بأكثر على الفعل الذي ينبثق من إسار الجملة الاسمية، وهذا – برأيي - لا يجيء اعتباطاً، وإنما نتيجة لتماهي الروح الشاعرة في حديقة النص الشعري، الأمر الذي يؤكد بجلاء عفوية اللحظة الشعرية في المجموعة، بشكل عام، على اعتبار أن القصيدة ابنة الدفق الأول الذي تكاد لا تصله سوى رتوش جدّ قليلة كما يتضح، وهو مايرجح انتماءها للفطرة أولاً وأخيراً :
لموسيقا المطر استمعا
غناء الريح
حديث المدفأة
انطفأت الأبناء
سكت الهاتف
امتلأت المفكرة
هذه – وباختصار لن يتمّ البتّة – شيلان التي عرفتها منذ تهجئتها لأولى قصائدها الطفلة، المتصادية مع روحها وأحلامها برهتئذ، بل وألقها، واكتمالها، قامة ستجد الطريق – لا محالة – إلى حدائق الرّيحان والأزاهير والرؤى في عالم القصيدة التي تكتبها شاعرتنا الكردية، بثقة بالغة، ترصد كلّ ما يمكن للقصيدة أن تتوجه إليه، وتتوجه، وتحتفي به، عبر شعرية لمّاحة في أحايين كثيرة ...
أجل، هذه شيلان الشاعرة، وان كنت حاولت أن أقصي عن لحظة القراءة إنسانة عرفتها أقرب من ابنة، وأحنّ من شقيقة روح، بوفائها اللامتناهي، وها هي ذي تعلن بالمقابل عن حصيدها الأول الذي يترع بالطموح وحرائق الروح الشاعرة، بيد أنها – وكما أعرفها- تعدّ بأكثر وأكثر لما تشعله في دمها شياطين الشعر، كي تكمل ملامح اسم شعري له وقعه المكانيّ، عندنا، مادامت قد قدّمت قرابين الرّوح طويلاً على مذابح الكلمة التي تشبه الحلم والدم، وهي بحق تسعى لأن تقدم بدورها أوراق اعتماد بلا رجعى إلى هذا العالم، من خلال هذه المجموعة التي حاولت أن أتناولها في مستهل هذه التّقدمة بمحض حيادية، وموضوعية، كما يخيّل إلي، بعيداً عن جموح العواطف الذي كثيراً ما لا أمتلك ما يلزم من المقدرة للامساك بأعنّتها، ليتحقّق تماماً ما هو مرجو من مثل هذه الوقفة دون شطط أو زلل .
* شاعرة كردية من سوريا تقيم في كردستان العراق منذ سنوات
أتى هذا الخبر من جريدة الاتحاد